الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وعلى هذا المعنى هي قراءة الجمهور، وكان عيسى بن عمر يجعلها حرفين ويقف على {كالوا} و{وزنوا} بمعنى: هم يخسرون إذا كالوا ووزنوا. ورويت عن حمزة، فقوله: {هم} تأكيد للضمير، وظاهر هذه الآية يقتضي أن الكيل والوزن على البائع وليس ذلك بالجلي، وصدر الآية هو في المشترين، فذمهم بأنهم {يستوفون} ويشاحون في ذلك، إذ لا تمكنهم الزيادة على الاستيفاء لأن البائع يحفظ نفسه، فهذا مبلغ قدرتهم في ترك الفضيلة والسماحة المندوب إليها، ثم ذكر أنه إذا باعوا أمكنهم من الظلم والتطفيف أن يخسروا لأنهم يتولون الكيل للمشتري منهم وذلك بحالة من يخسر البائع إن قدر، و{يخسرون} معدى بالهمزة يقال: خسر الرجل وأخسره غيره، والمفعول لـ: {كالوهم} محذوف، ثم وقفهم تعالى على أمر القيامة وذكرهم بها وهذا مما يؤيد أنها نزلت بالمدينة في قوم من المؤمنين وأريد بها مع ذلك من غبر من الأمة، و{يظن} هنا بمعنى: يعلم ويتحقق، و(اليوم العظيم): يوم القيامة، و{يوم} ظرف عمل فيه فعل مقدر يبعثون ونحوه، وقال الفراء: هو بدل من {ليوم عظيم}، لكنه بني ويأبى ذلك البصريون، لأنه مضاف إلى معرب، وقام الناس فيه {لرب العالمين} يختلف الناس فيه بحسب منازلهم، فروى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقام فيه خمسين ألف سنة». وهذا بتقدير شدته، وقيل: «ثلاثمائة سنة»، قاله النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عمر: مائة سنة وقيل ثمانون سنة، وقال ابن مسعود أربعون سنة رافعي رؤوسهم إلى السماء لا يؤمرون ولا يكلمون، وقيل غير هذا، ومن هذا كله آثار مروية ومعناها: إن لكل قوم مدة ما تقتضي حالهم وشدة أمرهم ذلك، وروي أن القيام فيه على المؤمن على قدر ما بين الظهر إلى العصر، وروي عن بعض الناس: على قدر صلاة، وفي هذا القيام هو إلجام العرق للناس، وهو أيضاً مختلف، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق عقبة بن عامر: «أنه يلجم الكافر إلجاماً» ويروى أن بعض الناس يكون فيه إلى أنصاف ساقيه وبعضهم إلى فوق، وبعضهم إلى أسفل. اهـ.
أراد: جنيت لك، والوجه الآخر: أن يكون على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مُقامه، والمضاف هو المكيل والموزون.وعن ابن عباس رضي الله عنه: إنكم معاشر الأعاجم وَلِيتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم: المِكيالَ والمِيزان.وخَصَّ الأعاجم، لأنهم كانوا يجمعون الكيل والوزن جميعاً، وكانا مُفرَقين في الحَرَمين؛ كان أهل مكة يزِنون، وأهل المدينة يكيلون.وعلى القراءة الثانية {هُمْ} في موضع رفع بالابتداء؛ أي وإذا كالوا للناس أو وزنوا لهم فهم يخسرون.ولا يصح؛ لأنه تكون الأُولى مُلغاة، ليس لها خبر، وإنما كانت تستقيم لو كان بعدها: وإذا كالوا هم يَنْقُصون، أو وزنوا هم يخسرون.الثانية قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خمس بخمسٍ: ما نقض قوم العهد إلا سَلَّط الله عليهم عدوّهم، ولا حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت الفاحشة فيهم إلا ظهر فيهم الطاعون، وما طَفَّفوا الكيلَ إلا مُنعوا النَّبات، وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حَبَس الله عنهم المَطَر» خرجه أبو بكر البزار بمعناه، ومالك بن أنس أيضاً من حديث ابن عمر.وقد ذكرناه في كتاب التذكرة.وقال مالك بن دينار: دَخَلْت على جارِ لي قد نزل به الموت، فجعل يقول: جَبَلين من نار! جبلين من نار! فقلت: ما تقول؟ أتهجر؟ قال: يا أبا يحيى، كان لي مكيالان، أكيل بأحدهما، وأكتال بالآخر؛ فقمت فجعلت أضرب أحدهما بالآخر، حتى كَسَرتهما، فقال: يا أبا يحيى، كلما ضربت أحدهما بالآخر ازداد عِظَماً، فمات من وجَعه.وقال عكرمة: أشهدُ على كل كَيال أو وزّان أنه في النار.قيل له: فإن ابنك كيال أو وزان.فقال: أشهد أنه في النار.قال الأصمعيّ: وسمعت أعرابية تقول: لا تَلْتَمِس المروءة ممن مروءته في رؤوس المكاييل، ولا ألسنة الموازين.ورُوي ذلك عن علي رضي الله عنه، وقال عبدُ خير: مر على رضي الله عنه على رجل وهو يزن الزعفران وقد أرجح، فأكفأ الميزان، ثم قال: أقم الوزن بالقسط؛ ثم أرجح بعد ذلك ما شئت.كأنه أمره بالتسوية أوّلاً ليعتادها، ويُفضل الواجبَ من النفل.وقال نافع: كان ابن عمر يمر بالبائع فيقول: اتق الله وأوف الكيل والوزن بالقسط، فإن المطففين يوم القيامة يوقفون حتى إن العَرَق ليلْجِمُهم إلى أنصاف آذانهم.وقد رُوِي أن أبا هريرة قدم المدينة وقد خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى خيبر واستخلف على المدينة سِباع بن عُرْفُطة، فقال أبو هريرة: فوجدناه في صلاة الصبح فقرأ في الركعة الأولى (كهيعص) وقرأ في الركعة الثانية (ويل للِمطففِين) قال أبو هريرة: فأقول في صلاتي: ويْل لأبي فلان، كان له مكيالان إذا اكتال اكتال بالوافي، وإذا كال كال بالناقص.قوله تعالى: {أَلا يَظُنُّ أولئك} إنكار وتعجيب عظيم من حالهم، في الاجتراء على التطفيف، كأنهم لا يُخْطرون التطفيف ببالهم، ولا يُخَمِّنون تخميناً {أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ} فمسؤولون عما يفعلون.والظن هنا بمعنى اليقين؛ أي ألا يُوقن أولئك، ولو أيقنوا ما نقصوا في الكيل والوزن.وقيل: الظن بمعنى التردد، أي إن كانوا لا يستيقنون بالبعث، فهلا ظنُّوه، حتى يتدبروا ويبحثوا عنه، ويأخذوا بالأحوط {لِيوم عَظِيمٍ} شأنه وهو يوم القيامة.قوله تعالى: {يوم يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين} فيه أربع مسائل:الأولى العامل في {يوم} فعل مضمر، دل عليه {مبعوثون}.والمعنى يبعثون {يوم يقوم الناس لرب العالمين}.ويجوز أن يكون بدلاً من يوم في {لِيوم عظِيم}، وهو مبني.وقيل: هو في موضع خفض؛ لأنه أضيف إلى غير متمكن.وقيل: هو منصوب على الظرف أي في يوم، ويقال: أقم إلى يوم يخرج فلان، فتنصب يوم، فإن أضافوا إلى الاسم فحينئذ يخفضون ويقولون: أقم إلى يوم خروج فلان.وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، التقدير: إنهم مبعوثون يوم يقوم الناس لرب العالمين ليوم عظيم.الثانية وعن عبد الملك بن مروان: أن أعرابياً قال له: قد سمعتَ ما قال الله تعالى في المطففين؛ أراد بذلك أن المطففين قد توجه عليهم هذا الوعيد العظيم الذي سمعت به، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزْن.وفي هذا الإنكارِ والتعجيبِ وكلمةِ الظن، ووصفِ اليوم بالعظيم، وقيامِ الناس فيه لله خاضعين، ووصفِ ذاته برب العالمين، بيان بليغ لِعظم الذنب، وتفاقم الإثم في التطفيف، وفيما كان في مثل حاله من الحيف، وترك القيام بالقسط، والعمل على التسوية والعدل، في كل أخذٍ وإعطاءٍ، بل في كل قول وعمل.الثالثة قرأ ابن عمر: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} حتى بلغ {يوم يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين} فبكى حتى سَقَط، وامتنع من قراءة ما بعده، ثم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول «يوم يقوم الناس لرب العالمين، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فمنهم من يبلغ العَرَق كعبيه، ومنهم من يبلغ ركبتيه، ومنهم من يبلغ حِقْويه، ومنهم من يبلغ صدره، ومنهم من يبلغ أذنيه، حتى إن أحدهم ليغيب في رَشْحه كما يغيب الضِّفدع» ورَوى ناس عن ابن عباس قال: يقومون مقدار ثلثمائة سنة.قال: ويهون على المؤمنين قدرُ صلاتهم الفريضة.ورُوي عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقومون ألف عام في الظُّلة» ورَوَى مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يوم يقوم الناس لرب العالمين، حتى إن أحدهم ليقوم في رشحه إلى أنصاف أذنيه».وعنه أيضاً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «يقوم مائة سنة» وقال أبو هريرة قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لبشير الغِفاريّ: «كيف أنت صانع في يوم يقوم الناس فيه مقدار ثلثمائة سنة لرب العالمين، لا يأتيهم فيه خبر، ولا يؤمر فيه بأمر» قال بشير: المستعان الله.قلت: قد ذكرناه مرفوعاً من حديث أبي سعيد الخدريّ عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه لَيخفف عن المؤمن، حتى يكون أخفَّ عليه من صلاة المكتوبة يصلّيها في الدنيا (في)سأل سائل».وعن ابن عباس: يَهون على المؤمنين قدرُ صلاتهم الفريضة.وقيل: إن ذلك المقام على المؤمن كزوال الشمس؛ والدليل على هذا من الكتاب قوله الحق: {ألا إِنَّ أَوْلِيَاءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] ثم وصفهم فقال: {الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} [يونس: 63] جعلنا الله منهم بفضله وكرمه وجوده ومنِّه آمين.وقيل: المراد بالناس جبريل عليه السلام يقوم لرب العالمين؛ قاله ابن جُبير.وفيه بُعد؛ لما ذكرنا من الأخبار في ذلك، وهي صحيحة ثابتة، وحسُبك بما في صحيح مسلم والبخاريّ والترمذيّ من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم.{يوم يقوم الناس لِرب العالمِين} قال: «يقوم أحدهم في رشْحه إلى نصف أذنيه» ثم قيل: هذا القيام يوم يقومون من قبورهم.وقيل: في الآخرة بحقوق عباده في الدنيا.وقال يزيد الرشك: يقومون بين يديه للقضاء.الرابعة القيام لله رب العالمين سبحانه حَقير بالإضافة إلى عظمته وحقه، فأما قيام الناس بعضهم لبعض فاختلف فيه الناس؛ فمنهم من أجازه، ومنهم من منعه.وقد رُوي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قام إلى جعفر بن أبي طالب واعتنقه، وقام طلحة لكعب بن مالك يوم تِيب عليه.وقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار حين طلع عليه سعد بن مُعاذ: «قوموا إلى سيِّدكم» وقال أيضاً: «من سره أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأْ مقعده من النار» وذلك يرجع إلى حال الرجل ونيته، فإن انتظر ذلك واعتقده لنفسه، فهو ممنوع، وإن كان على طريق البشاشة والوُصلة فإنه جائز، وخاصة عند الأسباب، كالقدوم من السفر ونحوه.وقد مضى في آخر سورة (يوسف) شيء من هذا. اهـ.
|